الاثنين، 15 سبتمبر 2008

معارك نحر قادة الفرس " الابلة -مذار "

معركة ذات السلاسـل
القتال حتى الموت

الزمان / 18 محرم – 12 هجرية .
المكان / مدينة 'كاظمة' – العراق .




الموضوع / الجيوش الإسلامية بقيادة ' خالد بن الوليد ' تفتح أول بلد في العراق




مقدمة :


أمة الإسلام أمة جهادية، جعل الله عز وجل رزقها تحت ظل رمحها، وجعل الصغار على من خالفها، وهى أيضاً أمة خاتم الرسل، وهى مكلفة بنشر الإسلام في ربوع المعمورة، وإزالة كل قوى الكفر والشر التي تحول دون سماع دعوة الحق، تلك القوى التي تحارب الدعاة لدين الله عز وجل، وتضع العوائق والحواجز ليبقى الناس في ظلمات الشرك والجهل، وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم ذلك الأمر تماماً، فانطلقوا في ربوع ما علموه من المعمورة يدعون لدين الله، ويحاربون كل قوى الكفر والشر، ليرفعوا راية 'لا إله إلا الله' لا يعبد على الأرض سواه، وهذه واحدة من سلسلة طويلة من الفتوحات الإسلامية التي تجلت فيها عظمة المنهج الإسلامي، ومنزلة الصحابة رضوان الله عليهم ودورهم في نشر الدين .


الخليفة أبو بكر وأرض العراق :


بعد أن انتهى الخليفة 'أبو بكر' من القضاء على حركة الردة الشريرة التي نجمت بأرض العرب، قرر أن يتفرغ للمهمة الأكبر وهى نشر دين الله بعد أن مهد الجبهة الداخلية، وقضى على هذه الفتنة، وكان 'أبو بكر' يفكر في الجبهة المقترحة لبداية الحملات الجهادية عملاً بقوله عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ( سورة التوبة - الآية 123 ) وكانت الدولة الإسلامية تقع بين فكي أقوى دولتين في العالم وقتها، دولة 'الفرس' المجوسية من ناحية الشرق بأرض العراق وإيران، ودولة'الروم' الصليبية من ناحية الشمال بأرض الشام والجزيرة، وكان 'أبو بكر' يفضل الجبهة الشامية على الجبهة العراقية، ولكنه فضل البدء بدولة 'الفرس' لقوتها وشدة بأسها، وأيضاً لكفرها الأصلي، فهي أشد كفراً من دولة 'الروم' الذين هم أهل كتاب، وأخيراً استقر رأى الخليفة على البدء بالجبهة العراقية .

بعد أن انتهى القائد الكبير 'خالد بن الوليد' والمسلمين معه من حربه على المرتدين من 'بني حنيفة' أتباع 'مسيلمة الكذاب' جاءته الأوامر من الخليفة أبى بكر بالتوجه إلى الأراضي العراقية، مع عدم إكراه أحد من المسلمين على مواصلة السير معه إلى العراق، ومن أحب الرجوع بعد قتال المرتدين فليرجع،فانفض كثير من الجند، وعادوا إلى ديارهم، ليس خوفاً ولا فراراً من لقاء 'الفرس' ولكن تعباً وإرهاقاً من حرب الردة، فلم يبقى مع 'خالد' سوى ألفين من المسلمين .

وما قام به 'أبو بكر' هو عين الصواب والبصيرة الثاقبة فإنه لن ينصر دين الله إلا من كان عنده الدافع الذاتي، والرغبة التامة في ذلك، مع الاستعداد البدني والنفسي لذلك، فمن تعلق بشواغل الدنيا، أو كان خاطره وقلبه مع بيته وأهله لا يصمد أبداً في القتال، كما أن هذا الجهاد جهاد طلب، وهو فرض كفاية كما قال أهل العلم .

العبقرية العسكرية :

وضع الخليفة 'أبو بكر' خطة عسكرية هجومية، تجلت فيها عبقرية 'الصديق' الفذة، حيث أمر قائده 'خالد بن الوليد' أن يهجم على العراق من ناحية الجنوب، وفي نفس الوقت أمر قائداً آخر لا يقل خبرة عن 'خالد بن الوليد' وهو 'عياض بن غنم الفهرى' أن يهجم من ناحية الشمال، في شبه كماشة على العدو، ثم قال لهما : ( من وصل منكما أولاً إلى 'الحيرة' واحتلها فهو الأمير على كل الجيوش بالعراق، فأوجد بذلك نوعاً من التنافس الشريف والمشروع بين القائدين، يكون الرابح فيه هو الإسلام ) .

كانت أول مدينة قصدها 'خالد بن الوليد' هي مدينة 'الأبلة'، وكانت ذات أهمية استراتيجية كبيرة، حيث أنها ميناء 'الفرس' الوحيد على الخليج العربي، ومنها تأتى كل الإمدادات للحاميات الفارسية المنتشرة بالعراق، وكانت هذه المدينة تحت قيادة أمير فارسي كبير الرتبة اسمه 'هرمز'، وقد اشتق من اسمه اسم المضيق القائم حالياً عند الخليج العربي، وكان رجلاً شريراً متكبراً، شديد البغض للإسلام والمسلمين، ولل*** العربي بأسره، وكان العرب بالعراق يكرهونه بشدة، ويضربون به الأمثال فيقولون : ( أكفر من هرمز ، اخبث من هرمز ) ، فلما وصل 'خالد' بالجيوش الإسلامية هناك، وكان تعداد هذه الجيوش قد بلغ ثمانية عشر ألفاً بعد أن طلب الإمدادات من الخليفة، أرسل برسالة للقائد 'هرمز' تبين حقيقة الجهاد الإسلامي، وفيها أصدق وصف لجند الإسلام، حيث جاء في الرسالة :

( أما بعد فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك ولقومك الذمة، وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فلقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ) . ( قلت : كما هو حال الأمة المسلمة في هذا اليوم !!! )

وهذا أصدق وصف لجند الإسلام، وهو الوصف الذي جعل أعداء الإسلام يهابون المسلمين، وهو النفحة الغالية التي خرجت من قلوب المسلمين، وحل محلها 'الوهن' الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سبب تكالب الأمم علينا، وهو كما عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( حب الدنيا وكراهية الموت ) ( .

حرب الاستنزاف :

'هرمز' يرفض الرسالة الإسلامية التي تدعوه إلى الإسلام أو الجزية، ويختار بيده مصيره المحتوم، ويرسل إلى كسرى يطلب الإمدادات، وبالفعل يرسل كسرى إمدادات كبيرة جداً، ويجتمع عند 'هرمز' جيش جرار عظيم التسليح، ويبنى 'هرمز' خطته على الهجوم على مدينة 'كاظمة' ظناً منه أن المسلمين سوف يعسكرون هناك، ولكنه يصطدم أمام العقلية العسكرية الفذة للقائد 'خالد بن الوليد' .

قام 'خالد بن الوليد' بما يعرف في العلوم العسكرية الحديثة بحرب استنزاف، ومناورات مرهقة للجيش الفارسي، فقام 'خالد' وجيشه بالتوجه إلى منطقة 'الحفير'، وأقبل 'هرمز' إلى 'كاظمة' فوجدها خالية وأخبره الجواسيس أن المسلمين قد توجهوا إلى 'الحفير'، فتوجه 'هرمز' بسرعة كبيرة جداً لى 'الحفير' حتى يسبق المسلمين، وبالفعل وصل هناك قبل المسلمين، وقام بالاستعداد للقتال، وحفر خنادق، وعبأ جيشه، ولكن البطل 'خالد' يقرر تغير مسار جيشه ويكر راجعاً إلى مدينة 'الكاظمة'، ويعسكر هناك ويستريح الجند قبل القتال .

تصل الأخبار إلى 'هرمز' فيستشيط غضباً، وتتوتر أعصابه جداً، ويتحرك بجيوشه المرهقة المتعبة إلى مدينة 'الكاظمة' ليستعد للصدام مع المسلمين، وكان 'الفرس'أدرى بطبيعة الأرض وجغرافية المكان من المسلمين، فاستطاع 'هرمز' أن يسيطر على منابع الماء بأن جعل نهر الفرات وراء ظهره، حتى يمنع المسلمين منه، وصدق الحق عندما قال { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [216] سورة البقرة فقد كان سبباً لاشتعال حمية المسلمين وحماستهم ضد الكفار، وقال 'خالد بن الوليد' كلمته الشهيرة تحفيزاً بها الجند : 'ألا انزلوا وحطوا رحالكم، فلعمر الله ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين' .

وقبل أن يصطدم 'هرمز' قائد الجيوش الفارسية مع جيوش المسلمين أرسل بصورة الوضع إلى كسرى، الذي قام بدوره بإرسال إمدادات كبيرة يقودها 'قارن بن قرباس' يكون دورها الحفاظ على مدينة 'الأبلة' في حالة هزيمة 'هرمز' أمام المسلمين، لأهمية هذه المدينة كما أسلفنا .


سلاسل الموت :


كان 'هرمز' رجلاً متكبراً أهوجاً، لا يستمع إلا لصوت نفسه فقط، حيث رفض الاستماع لنصائح ****ه، وأصر على أن يربط الجنود 'الفرس' أنفسهم بالسلاسل، حتى لا يفروا من أرض المعركة، كناية عن القتال حتى الموت، لذلك فقد سميت المعركة بذات السلاسل .

والمسلمون أولى بهذا الصبر والثبات لأنهم على الحق والدين، وعدوهم على الباطل والكفر، وشتان بين الفريقين .

كان أول وقود المعركة وكما هو معتاد وقتها أيام الحروب أن يخرج ال**** للمبارزة، كان أول الوقود عندما خرج القائد الفارسي 'هرمز' لمبارزة القائد المسلم 'خالد بن الوليد'، وكان 'هرمز' كما أسلفنا شديد الكفر والخيانة، فاتفق مع مجموعة من فرسانه على أن يهجموا على 'خالد' ويفتكوا به أثناء المبارزة ، وبالفعل خرج المسلم للقاء الكافر، وبدأت المبارزة، ولم يعهد أو يعلم عن 'خالد بن الوليد' أنه هزم قط في مبارزة طوال حياته قبل الإسلام وبعده ، وقبل أن تقوم مجموعة الغدر بجريمتهم الشريرة فطن أحد أبطال المسلمين الكبار لذلك، وهو البطل المغوار 'القعقاع بن عمرو'، صنو 'خالد' في البطولة والشجاعة، فخرج من بين الصفوف مسرعاً، وانقض كالأسد الضاري على مجموعة الغدر فقتلهم جميعاً، وفي نفس الوقت أجهز 'خالد بن الوليد' على الخائن 'هرمز' وذبحه كالنعاج، وكان لذلك الأمر وقعاً شديداً في نفوس 'الفرس'، حيث انفرط عقدهم، وانحل نظامهم لمقتل قائدهم، وولوا الأدبار، وركب المسلمون أكتافهم، وأخذوا بأقفيتهم، وقتلوا منهم أكثر من ثلاثين ألفاً، وغرق الكثير في نهر الفرات، وقتل المربطون بالسلاسل عن بكرة أبيهم، وكانت هزيمة مدوية على قوى الكفر وعباد النار، وفر باقي الجيش لا يلوى على شيء .

الفزع الكبير :

لم تنته فصول المعركة عند هذا الحد، فمدينة 'الأبلة' لم تفتح بعد، وهناك جيوش قوية ترابط بها للدفاع عنها حال هزيمة جيوش 'هرمز' وقد كانت، ووصلت فلول المنهزمين من جيش 'هرمز' وهى في حالة يرثى لها من هول الهزيمة، والقلوب فزعة ووجلة، وانضمت هذه الفلول إلى جيش 'قارن بن قرباس' المكلف بحماية مدينة 'الأبلة'، وأخبروه بصورة الأمر فامتلأ قلبه هو الآخر فزعاً ورعباً من لقاء المسلمين، وأصر على الخروج من المدينة للقاء المسلمين خارجها، وذلك عند منطقة 'المذار'، وإنما اختار تلك المنطقة تحديداً لأنها كانت على ضفاف نهر الفرات، وكان قد أعد أسطولاً من السفن استعداداً للهرب لو كانت الدائرة عليه، وكانت فلول المنهزمين من جيش 'هرمز' ترى أفضلية البقاء داخل المدينة والتحصن بها، وذلك من شدة فزعهم من لقاء المسلمين في الميدان المفتوح .

كان القائد المحنك 'خالد بن الوليد' يعتمد في حروبه دائماً على سلاح الاستطلاع الذي ينقل أخبار العدو أولاً بأول، وقد نقلت له استخباراته أن 'الفرس' معسكرون 'بالمذار'، فأرسل 'خالد' للخليفة 'أبو بكر' يعلمه بأنه سوف يتحرك للمذار لضرب المعسكرات الفارسية هناك ليفتح الطريق إلى الأبلة، ثم انطلق 'خالد' بأقصى سرعة للصدام مع 'الفرس'، وأرسل بين يديه طليعة من خيرة 'الفرسان'، يقودهم أسد العراق 'المثنى بن حارثة'، وبالفعل وصل المسلمون بسرعة لا يتوقعها أحد من أعدائهم .


الفطنة العسكرية :


عندما وصل المسلمون إلى منطقة المذار أخذ القائد 'خالد بن الوليد' يتفحص المعسكر، وأدرك بخبرته العسكرية، وفطنته الفذة أن الفزع يملأ قلوب 'الفرس'، وذلك عندما رأى السفن راسية على ضفاف النهر، وعندها أمر 'خالد' المسلمين بالصبر والثبات في القتال، والإقدام بلا رجوع، وكان جيش 'الفرس' يقدر بثمانين ألفاً، وجيش المسلمين بثمانية عشر ألفاً، وميزان القوى المادي لصالح 'الفرس' .

خرج قائد 'الفرس' 'قارن' وكان شجاعاً بطلاً، وطلب المبارزة من المسلمين فخرج له رجلان 'خالد بن الوليد' وأعرابي من البادية، لا يعلمه أحد، اسمه 'معقل بن الأعشى' الملقب 'بأبيض الركبان' لمبارزته، وسبق الأعرابي 'خالداً'، وانقض كالصاعقة على 'قارن' وقتله في الحال، وخرج بعده العديد من أبطال 'الفرس' وقادته فبارز 'عاصم بن عمرو' القائد 'الأنوشجان' فقتله، وبارز الصحابي الجليل 'عدى بن حاتم' القائد 'قباذ' فقتله في الحال، وأصبح الجيش الفارسي بلا قيادة .

كان من الطبيعي أن ينفرط عقد الجيش الفارسي بعد مصرع قادته، ولكن قلوبهم كانت مشحونة بالحقد والغيظ من المسلمين، فاستماتوا في القتال على حنق وحفيظة، وحاولوا بكل قوتهم صد الهجوم الإسلامي ولكنهم فشلوا في النهاية تحت وطأة الهجوم الكاسح، وانتصر المسلمون انتصاراً مبيناً، وفتحوا مدينة 'الأبلة'، وبذلك استقر الجنوب العراقي بأيدي المسلمين، وسيطروا على أهم مواني 'الفرس' على الخليج، وكان هذا الانتصار فاتحة سلسلة طويلة من المعارك الطاحنة بين 'الفرس' والمسلمين على أرض العراق كان النصر فيها حليفاً للمسلمين في جملتها، وانتهت بسقوط مملكة عباد النار .


المصادر :

تاريخ الرسل والملوك .
الكامل في التاريخ .
الخلفاء الراشدين .
التاريخ الإسلامي .
البداية والنهاية .
تاريخ الخلفاء .
محاضرات في الأمم الإسلامية.
موسوعة التاريخ الإسلامي .
فتوح البلدان .
المنتظم


اسرع معركة في التاريخ"عين التمر"

الزمان / 11 رجب – 12 هجرية .

المكان / 'عين التمر'- شمال غرب 'الحيرة' – 'العراق' .

الموضوع / جيوش الإسلام بقيادة 'خالد بن الوليد' تقضي على الحاميات الفارسية بالعراق .


مقدمة




مفكرة الإسلام : بعد أن فتح الله عز وجل معظم بلاد 'العراق' للمسلمين، وذلك في أربعين يوماً فقط، وبعد أن فتحت 'الحيرة' عاصمة الفرس العربية، وأهم مدينة بالعراق بعد 'المدائن'، جاء الأمر من الخليفة 'أبو بكر الصديق' 'لخالد بن الوليد' أن يتوجه سريعاً لإنقاذ المسلمين المحاصرين في منطقة 'دومة الجندل'، وكنا قد عرضنا من قبل في أثناء سردنا لبداية الحملة الجهادية لفتح العراق أن الخليفة 'أبا بكر' قد كلف كلاً من 'خالد بن الوليد' من ناحية الجنوب، و'عياض بن غنم' من ناحية الشمال ، ليوجد بذلك حالة من التنافس بينهما، حيث جعل من يصل أولاً هو القائد العام ، فتقدم 'خالد'، وتعثر 'عياض' ومن معه، وحوصروا في منطقة 'دومة الجندل'، حاصرتهم أعداد ضخمة من القبائل العربية الموالية للفرس، وكان القائد 'خالد بن الوليد' تواقاً لأن يهجم على المدائن عاصمة الفرس، لينهي الوجود الفارسي تماماً في العراق، ولكنه امتثل لأوامر قائده العام الخليفة 'أبى بكر' .



**[النظام والانضباط والجدية، وطاعة أولى الأمر في غير معصية الله عز وجل من أهم عوامل النجاح، والله عز وجل علم أمة الإسلام درساً عظيماً في عاقبة مخالفة الأوامر، وذلك يوم أحد، وبين ذلك بقوله عز وجل : {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [165] سورة آل عمران 165



خطر الحاميات الفارسية




كان القائد الحربي 'خالد بن الوليد' من الطراز النادر في إدارة العمليات الحربية، بل ربما هو نسيج وحده، فقد رأى قبل التوجه لإنقاذ المسلمين المحاصرين 'بدومة الجندل' ضرورة تأمين وضع المسلمين في المدن المفتوحة، خاصة في ظل وجود حاميات فارسية قوية في المناطق المحيطة بمدينة 'الحيرة' أهم مدن العراق، وعاصمة الفرس العربية، والتي كان لسقوطها في أيدي المسلمين دوى كبير في أركان البيت الفارسي، وكانت هذه الحاميات تتركز فى منطقتين هما : منطقتا 'الأنبار' و'عين التمر'، وبالفعل قرر 'خالد' الهجوم على تلك الحاميات، وإزالة التهديد الفارسي للوجود الإسلامي بالحيرة .



لم يكن 'خالد' من القواد الذين ينتظرون المفاجآت، بل كان يعمل دائماً على بث عيونه واستخباراته قبل خوض أية معركة، وقد نقل له سلاح الاستطلاع أوضاع المدينة من حيث موقعها، وموقفها التحصيني، وكانت هذه المدينة شديدة التحصين مما يجعل مسألة السيطرة عليها أمراً صعباً، وذلك لعدة أسباب منها : موقع هذه المدينة على الشاطئ الشرقي لنهر 'الفرات'، مما يجعل بين المسلمين والفرس حاجزاً مائياً يهابه المسلمون، ومنها وجود أسوار منيعة حول المدينة، هذا غير وجود خندق عميق متسع يحيط بالمدينة من كل ناحية، ولكن كل ذلك لم يفت في عضد المسلمين وخطتهم الجهادية، وكان معظم أهل المدينة من النصارى، وعليهم قائد فارسي اسمه 'شيرازاد'، وقد جعل 'خالد بن الوليد' قائداً على هذه المعركة، وهو الصحابي 'الأقرع بن حابس'، رغم أنه ليس من السابقين في الإسلام، ولكنه صاحب كفاءة حربية ممتازة .



**[الحكمة تقتضي أن يتولى قيادة العمل من عنده الخبرة والكفاءة اللازمة لذلك العمل، فالأصلح قد يكون ليس هو الأفضل دينياً، ولقد علمهم ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عندما ولى 'عمرو بن العاص' قيادة جيش فيه 'أبو بكر' و'عمر' و'أبو عبيدة' ولم يكن مر على إسلام 'عمرو' أربعة أشهر]



ذات العيون


بدأ المسلمون زحفهم على المدينة الحصينة، فبدأوا أولاً باجتياز نهر 'الفرات' على الرغم من فيضان مائه في ذلك الوقت، وعلى الضفة الأخرى كان الرعب مستولياً على أهل المدينة، فلم يجرؤ أحد على الخروج من المدينة لصد العبور الإسلامى، وذلك للسمعة الكبيرة للمسلمين وفتوحاتهم السريعة والهائلة في أيام معدودات، والتي جعلت الجميع مكتوفي الأيدي، وبعد أن عبر المسلمون ظهرت أولى محاولات المقاومة عندما قامت مجموعة من أهل المدينة بارتقاء أسوارها، ورشق المسلمين بالسهام، وكان هذا الرمي وبالاً عليهم، إذ اكتشف القائد الفذ 'خالد بن الوليد' أن هؤلاء المقاتلين سذج لا يعرفون شيئاً من فنون القتال والرمي، ولا خبرة لهم بالحرب .



أمر 'خالد بن الوليد' كتيبة خاصة في الجيش الإسلامي مكونة من أمهر رماة العرب برمي المحاربين رمياً واحداً كثيفاً، ويركزون على عيون المحاربين، وبالفعل انطلقت تلك السهام كالطير الأبابيل، وأصابت هدفها بدقة بالغة، وفقأت قرابة الألف عين، فصاح أهل المدينة جميعاً:'ذهبت عيون أهل الأنبار' وسمى هذا اليوم بذات العيون، وصاحوا وماجوا، وعمتهم الفوضى وخرج 'شيرازاد' يسأل عن الخبر، فلما علم أسرع لعقد صلح مع المسلمين، ولكنه اشترط شروطاً لا يقرها الإسلام في الحرب، فلم يوافق 'خالد' عليها .



**[ ليس كل صلح يوافق عليه، وليست كل معاهدة يصدق عليها، دون النظر لأوامر الإسلام، وكم من معاهدة واتفاقية أخذت مطية لسلب الحقوق، واغتصاب الأرض المسلمة، وما اتفاقية 'كامب ديفيد' و'أوسلوا' منكم ببعيد]



جسر الجمال




كان الخندق المائي يمثل مشكلة حقيقية للمسلمين، لأنه عميق ومتسع، ويحيط بالمدينة من كل مكان، ولكن ذلك لم يكن ليمنع الأسد الضاري 'خالد' صاحب العقلية العسكرية الفذة، حيث قام بالدوران حول سور المدينة لدراسة هذا الخندق جيداً، حتى وقف عند نقطة معينة من الخندق وتأملها طويلاُ، ثم تفتق ذهنه عن فكرة عبقرية،حيث وقف على أضيق نقطة في الخندق، وأمر بذبح كل الجمال الهزيلة والمريضة، وإلقائها عند هذه النقطة، فردم تلك النقطة بصنع جسر من الجمال، واستطاع المسلمون أن يعبروا بسهولة، وأصبح الجيش المسلم محيطاً بأسوار المدينة من كل مكان استعداداً لاقتحامها، فأسرع 'شيرازاد' وطلب الصلح من 'خالد' بشروط الإسلام، على أن يخرج 'شيرازاد' سالماً بأهله وماله إلى مكان آمن، فوفى له 'خالد' ذلك الشرط، وأبلغه مأمنة، ودخل المسلمون المدينة وأمن الناس على معايشهم .



**[الوفاء بالعهد أصل قرآني حافظ عليه المسلمون في كل موطن، وكان سبب إسلام كثير من الناس] .



عندما عاد 'شيرازاد' إلى قائد الفرس العام على العراق 'بهمن جاذوية' مهزوماً من الأنبار لامه 'بهمن' بشدة على مصالحة المسلمين، والتفريط في هذه المدينة الحصينة رغم ضخامة قواته، وكان 'شيرازاد' رجلاً عاقلاً فقال: 'إن هؤلاء القوم ـ يعنى أهل الأنبار ـ قد قضوا على أنفسهم بالهزيمة عندما رأوا جيش المسلمين، وإذا قضى قوم لأنفسهم بالهزيمة كاد هذا القضاء أن يلزمهم' ففهم 'بهمن' كلامه واقتنع به .



**[وصدق شيرازاد فيما قاله، فإن الهزيمة النفسية هي الهزيمة الحقيقية، هي الهزيمة التي تحطم القلوب، وتفل العزائم، وتخور معها الهمم، فلا يستطيع صاحبها معها أن يتقدم ولو خطوة واحدة للأمام، بل يظل عمره أسير ضعفه، ورهين وهمه، فهلا تدبر ذلك المسلمون ؟ ! ] .



الغرور الصليبي :




كانت الحامية الأخرى متمركزة في مدينة عين التمر، وكانت على طريق 'دومة الجندل' تراقب الأوضاع عن كثب، وكانت الحامية الموجودة 'بعين التمر' مكونة من قوتين كبيرتين : قوة فارسية بقيادة 'مهران بن بهرام'، وقوة عربية نصرانية مكونة من خليط من قبائل 'تغلب' و'إياد' بقيادة 'عقة بن أبى عقة'، وكان أحمقاً مغروراً، دفع ثمن هذا الحمق والغرور غالياً، حيث طلب هذا الصليبي الحاقد المغرور 'عقة' من القائد الفارسي 'مهران' أن يخلي الساحة ليقاتل هو المسلمين وحده دون مساعدة من الفرس، وقال له : 'إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالداً'، ولنا أن نفهم النفسية المريضة التي دفعت 'عقة' لهذا الطلب الغريب، فالغرور والحقد والرغبة في الفخر والزهو، وتحقيق الأمجاد بالانتصار على المسلمين، وقائدهم 'خالد بن الوليد' صاحب الراية الميمونة، والانتصارات الباهرة كل ذلك دفع 'عقة' لهذا الطلب، بل تمادى في غيه وغروره، وقرر الخروج لقتال المسلمين خارج المدينة : في الصحراء المفتوحة، كأنه بذلك يسعى لحتفه بقدميه كما يقولون، لأن الصحراء المفتوحة هي أصلاً ميدان المسلمين المفضل في القتال، وعندما سمع 'مهران' هذا الكلام من 'عقة' قال له :'صدقت لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم مثلنا في قتال العجم، دونكموهم، وإن احتجتم إلينا أعناكم' ، وكان 'مهران' قد بيت في نفسه أمراً، وهو الانسحاب من أمام المسلمين لعلمه أنهم لا يقهرون، وقد انتقد قادة الفرس ذلك الأمر من 'مهران' وقالوا له : 'ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب' يعنون عقة، فقال لهم 'مهران' : 'دعونى، فإنى لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على 'خالد' فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء ' .

**[ إن أعداء الدين مهما حاول أحد خدمتهم ـ ولو بروحه ـ فلن يعدوا قدره عندهم إلا قدر الكلب، كما قالت الفرس عن أعوانهم من العرب، وهكذا وصل أعداء الإسلام لمآربهم الخبيثة قديما وحديثاً على أكتاف طابور طويل من الكلاب، وما أكثرهم ‍‍‍‍‍!! ] .



أسرع هزيمة في التاريخ :




خرج 'عقة' المغرور ومن معه من العرب المتنصرة من المدينة للصدام مع المسلمين، وأوغل في الصحراء غروراً منه لمبادرة المسلمين بالهجوم، ووصل إلى منطقة 'الكرخ' وعبأ قواته النصرانية، ووصل المسلمون إلى أرض المعركة وعبأ 'خالد' الجيش بسرعة، وأستعد للقتال، ولم يكن 'خالد' قد رأى 'عقة' من قبل، ونظر إليه نظرة الفاحص الخبير بنفوس المحاربين، فعلم أن هذا الرجل شديد الغرور، فقرر القيام بحيلة بارعة شجاعة، جريئة في نفس الوقت، وهى خطف القائد 'عقة' نفسه في عملية فدائية أشبه ما تكون بعمليات الصاعقة، فانتخب مجموعة خاصة من أبطال المسلمين، وأطلعهم على الفكرة الجريئة، فوافق عليها الجميع، فالكل أبطال، والجميع 'خالد'، وبالفعل انقض 'خالد' ومجموعته الفدائية على صفوف العدو ـ وهم يقدرون بعشرات الآلاف ـ كما ينقض الأسد عل فريسته، وكان 'عقة' مشغولاً بتسوية الصفوف، واندهش العدو من هذه المجموعة الصغيرة التي تهجم على عشرات الآلاف، ولم يفيقوا من هول الصدمة وإلا و'خالد' قد أسر 'عقة' وحمله بين يديه كالطفل الصغير وعاد به إلى صفوف المسلمين، وعندها تجمدت الدماء في عروق العرب المتنصرة، وركبهم الفزع الشديد، ففروا من أرض المعركة دون أن يسلوا سيفاً واحداً في أسرع هزيمة في التاريخ .

واصل المسلمون سيرهم بعد هذه الضربة الخاطفة حتى وصلوا إلى أسوار المدينة، وكان 'مهران' وحاميته الفارسية قد عرفوا بما حل للمغرور 'عقة' ومن معه، ففروا هاربين تاركين أعوانهم النصارى لمصيرهم المحتوم وعندها أسقط في يد نصارى المدينة ماذا يفعلون ؟ فأرسلوا إلى 'خالد' يطلبون منه الصلح، ولكن 'خالداً' علم أن هؤلاء الذين يطلبون الصلح هم المحاربون الذين انهزموا في أرض المعركة وهم بالتالي لا يستحقون الأمان والصلح، وإنما أجبرهم على ذلك قرب أجلهم، ودنوا هزيمتهم، فرفض 'خالد' الصلح معهم، إذ لا أمان مع هؤلاء الخونة الكفرة، الذين باعوا أنفسهم للمشركين الأصليين عباد النار، وقاتلي بنى جلدتهم وأهل كتاب مثلهم، لا لشيء إلا بدافع الحقد والحسد، أصر 'خالد' على عدم الصلح حتى ينزلوا على حكمه، وهذا معناه في عرف الحروب أن يكون 'خالد' مخيراً في فعل أي شيء معهم : يقتلهم، يسبيهم، يعفو عنهم، المهم أنهم تحت حكمه وأمره، فلما يئس المتنصرة من نجدة الفرس لهم نزلوا على حكم 'خالد بن الوليد' ، فألقى القبض على جميع من يقدر على حمل السلاح ثم حكم في الحال بإعدام المحاربين ، وبدأ بزعيمهم الأحمق 'عقة' وسبى الذرية والأموال .



**[ ليس في ذلك قسوة ولا غدر كما يظن البعض ممن يتعاطفون مع المنهزم وينسون إجرامه، فما حدث لهم جزاء وفاقا لهؤلاء المحاربين الذين خرجوا وفي نيتهم استئصال المسلمين بدافع من الحقد الصليبي المحض، كما أن هذا الحكم هو حكم الله عز وجل كما حدث يوم أن حكم الصحابي 'سعد بن معاذ' بنفس الحكم على إخوانهم في الحقد والشقاء يهود بنى قريظة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :' لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات']



وقد وجد المسلمون بمدينة 'عين التمر' كنيسة يتعلم فيها أربعون صبياً الأنجيل، فلم يتعرض لهم 'خالد' بالقتل، بل اعتبرهم من جملة السبي، وذلك من عدل الإسلام، فلم يأخذ هؤلاء بجريرة بنى جلدتهم المقاتلين، وكان من بينهم شاب اسمه 'نصير' هو أبو الفاتح الكبير 'موسى بن نصير' فاتح الأندلس، وأيضا 'سيرين' أبو عالم زمانه، ومفتى الأمة في عصره 'محمد بن سيرين' .



***** وبتلك المعركة استطاع المسلمون إخلاء المنطقة الواقعة بين الحيرة ودومة الجندل من أية قوات معادية للمسلمين، وهى مساحة تقدر بخمسمائة كيلومتر مربع .




المصادر :ـ



تاريخ الرسل والملوك

تاريخ الخلفاء

فتوح البلدان

المنتظم

محاضرات في الأمم الإسلامية

الكامل في التاريخ

البداية والنهاية

موسوعة التاريخ الإسلامي

التاريخ الإسلامي

الخلفاء الراشدين

كتبه شريف عبد العزيز

خزيم بن اوس


إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الحيرة وهبته الشيماء بنت نفيلة لخريم بن أوس:


قال خزيم بن أوس رضي الله عنه -:


هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقدمت عليه مُنْصَرَفَةُ من تبوك،


فأسلمت فسمعته يقول:


[هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغله شهباء معتجرة بخمار أسود] فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدناها كما تصف فهي لي؟ قال: [هي لك!!]



قلت: ثم كانت الردة، فما ارتد أحد من طيء، فأقبلنا مع خالد بن الوليد نريد الحيرة، فلما دخلناها كان أول من تلقانا الشيماء بنت نفيلة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود فتعلقت بها فقلت: هذه وصفها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم،



فدعاني خالد بالبينة فأتيت بها، فكانت البينة محمد بن مسلمة ومحمد بن بشير الأنصاريان، فسلمها إليّ خالد، ونزل إليها أخوها عبدالمسيح بن نفيلة يريد الصلح، فقال: بعينها، فقلت: لا أنقصها والله من عشر مائة!! فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه، فقالوا لي: لو قلت مائة ألف لسلمها إليك، فقلت: ما كنت أحسب أن عدداً أكثر من عشر مائة!!


قلت: وهذا صحابي لا يعلم بعد الألف عدداً!! وهذا الحديث من أعلام نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حدث عن أمر من الغيب لا يمكن تصوره بالظن ولا التخييل ولا التوقع فإن تصور انتصار العرب المسلمين على الفرس كان أبعد من الخيال!! ولقد حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بصفته حقيقة واقعة!! ووقع الأمر كما حدث به تماماً.



مدونة الارض لنا " كل ما يخص المسلم صاحب الهم والدعوة"

قناة الاقصي وتردد جديد