الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

سبتة ومليلة

يَحرك ذكر مدينتي سبتة ومليلة العربيتين المغربيتين المحتلتين، مشاعر الأسى لدى كل عربي ومسلم يشعر بالغيرة على كل شبرٍ يُسلب ويقتطع من بلادنا العربية الإسلامية الحبيبة، فسبتة ومليلة مدينتان مغربيتان ضاربتان جذورهما في عمق التاريخ و مغربيتهما ليست فقط من الناحية الجغرافية، فهما امتدادٌ طبيعي للأراضي المغربية و لكن هناك عوامل تاريخية تشهد بعروبة المدينتين وبتبعيتهما لدولة المغرب الأقصى الذي نال استقلاله عام 1956م



مدينة سبتة




تقع مدينة سبتة في أقصى شمال المغرب على الساحل، وتبلغ مساحتها 19 كيلو مترًا مربعا، و هي مقابلة لشبه جزيرة جبل طارق تمامًا، يبلغ عدد سكانها 74 ألف نسمة، وإذ تتمتع سبتة بذلك الموقعٍ الإستراتيجي المتميز فقد سيطر عليها الرومان في عام 42 بعد الميلاد، وهم الذين أنشأوها على أصح الروايات، وبعد ذلك بنحو 400 عام طردت قبائل الوندال الرومان من المدينة ثم سيطر عليها البيزنطيون ثم القوط الغربيون القادمون من إسبانيا، ثم فتحها المسلمون وانطلقوا منها لفتح الأندلس.

و ذكر سبتة ياقوت الحموي في معجم البلدان و وصفها بأنها بلدة مشهورة من بلاد المغرب ومرساها أجود مرسى على البحر، وهي مدينة حصينة تشبه مدينة المهدية في تونس، ومن الرَّحالة الذين زاروها ابن بطوطة وابن جبير، ويذكر الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق" أن سبب تسميتها بهذا الاسم لأنها جزيرة منقطعة، والبحر يُحيطها من جميع جهاتها إلا من ناحية الغرب.

وساهمت سبتة من خلال علمائها في خدمة الفكر الإسلامي، فكانت خلال القرنين السادس والسابع الهجري من أهم مراكز الحركة العلمية في السواحل المغربية، كما أنجبت هذه المدينة العالم المغربي الشهير القاضي عياض الذي وُلد سنة 476هـ، و الذي قال عنه المؤرخون لولا القاضي عياض لما ذُكر المغرب، كذلك الشريف الإدريسي السبتي المتوفي 562هـ، عالم الجغرافيا، وهو الذي وضع أول خريطة رسم فيها العالم، ومن أهم مؤلفاته كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، ونسب إليها ياقوت الحموي جماعة من أهل العلم منهم ابن مرانة السبتي الذي كان من أعلم الناس بالحساب والهندسة والفقه.

ومما يؤكد هذا الازدهار العلمي والحضاري والتجاري الذي شهدته المدينة في العصر الإسلامي وقبل الغزو البرتغالي، هو الإحصائيات التي استُخرجت من كتاب "اختصار الأخبار عمَّا كان بثغر سبتة من سني الآثار" لمحمد بن القاسم الأنصاري السبتي الذي ذكر أن المدينة اشتملت على: 1000 مسجد، و62 خزانةً علميةً، و47 رباطًا وزاويةً، و22 حمامًا، 174 سوقًا، 24000 حانوت، و360 فندقًا، و360 فرنًا، إضافةً إلى أنواع الفواكه والورود، وهذا كله يدل على الازدهار الفكري والحضاري الذي وصلت إليه مدينة سبتة في عصرها الإسلامي، قبل أن تسقط بيد البرتغال، ثم تصبح بعد ذلك مدينة إسبانية في أرض عربية مسلمة



مدينة مليلة




مدينة مليلية

أما مليلة فتقع على الساحل الشمالي الشرقي للمغرب على البحر المتوسط، وقد ذكرها كذلك الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" و وصفها بأنها مدينة حسنة متوسطة ذات سور منيع وبها عمارات متصلة وزراعات كثيرة، ويذكر حسن الوزان في كتابه "وصف أفريقيا" أن المدينة كانت تشتهر بإنتاج كمية كبيرة من العسل ومنه اشتق اسمها مليلة الذي يعني العسل في لغة الأفارقة.

وكما كان الحال بالنسبة إلى سبتة، شهدت مليلة مرور الفينيقيين والقرطاجيين والرومان وتديرها إسبانيا منذ عام 1497، ومنذ عام 1992م ومليلة تعتبر بمثابة إقليم يتمتع بالحكم الذاتي، وتاريخ مليلة في اضطرابه أو استقراره أو تبادل السيادة عليه بين القوى المحلية والإقليمية مماثل إلى حد كبير لتاريخ سبتة

سبتة منطلق للفتوحات الإسلامية في الأندلس


لعبت مدينة سبتة التي فتحها المسلمون الأوائل دورًا مهمًّا في تاريخ الفتوحات الإسلامية، فكانت إحدى أهم المدن التي انطلقوا منها إلى الأندلس، و عندما فتح المسلمون بلاد المغرب بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد، تحوَّلت سبتة إلى قلعة للجهاد، ومنها انطلق الجيش الإسلامي نحو الأندلس فقاد طريف بن مالك في عام 91 هجرية أول سرية إسلامية إلى الأندلس، وعن طريقها مر القائد المسلم طارق بن زياد للأندلس عبر الجبل الذي يحمل اسمه حتى اليوم- جبل طارق- عام 92 هـ (الموافق 711م)، وبعده بعام واحد نزل موسى بن نصير أيضًا بها قبل أن يدخل الأندلس عبر الجبل الذي يحمل اسمه حتى الآن (جبل موسى. )

نالت المدينة حظوةً كبيرةً زمن المرابطين، وأصبحت مدينة سبتة خلال عصرهم من أهم مراكزهم الحربية، وأقام فيها يوسف بن تاشفين مدةً من الزمن، ليتمكَّن من أن يتابع بنفسه الإشراف على الجيش الإسلامي ونصرة إخوانهم في الأندلس، ومنها هبَّ يوسف بن تاشفين لإغاثة ملوك الطوائف عندما اشتدَّ عليهم قتال الصليبيين عام 430 هـ/ 1083م، كما مر منها عبد المؤمن بن علي الموحدي- صاحب الفضل في توحيد المغرب الإسلامي- عام 556هـ/1161م، وأبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عام 580 هـ/1191م في طريقهما إلى الأندلس، وأقام فيها الموحدون أسطولاً بحريًّا قويًّا، ثم استمرت هذه المدينة مركز الجهاد تؤدي دورها كثغرٍ من ثغور الإسلام.



احتلال سبتة ومليلة



تعود بداية سقوط المدينتين تحت الاحتلال الأوروبي إلى ضعف إمارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي حين بدأ الخلاف يدب بين أمراء المسلمين في الأندلس، وصاح فوق كل غصن ديك بتعبير لسان الدين بن الخطيب في وصف حالة الاقتتال بين الأمراء، فانتهز زعماء قشتالة- إسبانيا حاليًا- والبرتغال الفرصة للقضاء على الوجود الإسلامي في هذه البقاع الإسلامية، فيما سمي بحروب الاسترداد، وكانت غرناطة آخر هذه القلاع التي سقطت عام 1492م.

والمعروف تاريخيًّا أنه بعد سقوط الأندلس، أطلق بابا الفاتيكان يد إسبانيا في الساحل المتوسطي للمغرب، والبرتغال في الساحل الأطلسي، وعلى حين سقطت سبتة في يد البرتغاليين عام 1415م، بقيادة الأمير هنري البحار الذي كان يهدف إلى القضاء على نفوذ المسلمين في المنطقة ونشر المسيحية، وأحرق الأسطول البرتغالي مساجد سبتة وحولها إلى كنائس، وأحرقت كتب من كانت تعتبر أهم مراكز الحركة العلمية في السواحل المغربية.

وبقيت مليلة تقاوم جيوش الإسبان حتى سقطت عام 1497م، في إطار خطة عامة للأسبان والبرتغاليين لمحاصرة أقاليم الغرب الإسلامي واحتلال أراضيه، ومن ثم تحويلها إلى النصرانية عملاً بوصية الملكة إزابيلا الكاثوليكية المذهب، والتي نصَّت على ضرورة قيام الكاثوليك بغزو بلاد المغرب وتحويل المسلمين المغاربة إلى الدين النصراني، ورفع علم الصليب المسيحي عليه بدلاً من أعلام الهلال الإسلامي، وأصبحت المدينة إسبانية عندما تولى فيليب الثاني ملك إسبانيا عرش البرتغال عام 1580م، وبعد اعتراف إسبانيا باستقلال البرتغال تنازلت الأخيرة بمقتضى معاهدة لشبونة 1668م عن سبتة لإسبانيا


طمس الهوية الإسلامية

منذ احتلال المدينتين بذلت إسبانيا جهودًا متصلةً لطمس المعالم الإسلامية فيهما.. جهودٌ لا تختلف في شيء عن تلك التي بذلها الصليبيون والمغول في كل بقعة إسلامية وضعوا أيديهم عليها، أو تلك التي يبذلها الصهاينة في فلسطين اليوم، فدُكت الصوامع وهُدمت المساجد.

ويذكر المؤرخون أنه عندما سقطت مدينة سبتة كانت مآثرها تفوق مآثر القيروان، إذ كان بها ألف مسجد ونحو مائتين وخمسين مكتبةً، ولم يبق من هذه المعالم الحضارية الإسلامية سوى مساجد قليلة لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، بينما حرف الإسبان اسمها إلى سيوتا.

كما وضعت إسبانيا إجراءات قانونية عدة للحد من هجرة المسلمين نحو المدينتين، بهدف محو الوجود الإسلامي بالتدريج، وشجعت في المقابل الهجرة الإسبانية وهجرة اليهود الذين تزايد عددهم في الستينيات والسبعينيات خصوصًا في مدينة سبتة، كما ضيقت على السكان المسلمين هناك ومنعتهم من تراخيص البناء وحاصرت نشاطاتهم الدينية والثقافية.

وللحد من أعداد المسلمين في مدينة سبتة أصدرت سلطات مدريد قانونًا يعتبر بموجبه كل من يولد في مدينة سبتة إسباني الهوية، كما غيَّرت من هويتهما العمرانية والسكانية.

ويطلق الإسبان على المغاربة المقيمين في المدينتين "المورو" وهي تسمية مأخوذة من كلمة "موريسك" التي تعني في القاموس الإسباني بقايا المسلمين من عهد سقوط الأندلس، غير أنهم حرفوها ليصبح معناها "المسلم" أو العربي، وأضافوا كلمة أخرى هي "مالو" التي تعني الشرير ليصبح معنى عبارة "مورو مالو" هو المسلم الشرير، هذه الخلفية الدينية هي الثابتة في النظرة الإسبانية إلى المغرب وللسكان المسلمين في المدينتين، وتبقى مشحونةً بكل نزعات الكراهية نحو الإسلام والمسلمين، ومنذ بداية التسعينيات أصبحت نقطة الحدود المسماة "باب سبتة: بين سبتة والمغرب هي الحد الجغرافي للاتحاد الأوروبي، وعُلقت على مدخل المدينة لوحة معدنية كبيرة مكتوب عليها: "أهلاً بكم في الاتحاد الأوربي".


ليس في قضية الحرية حل وسط

منذ احتلال المدينتين لم يعترف المغاربة بتبعية المدينتين للإسبان واعتبروها جزءًا لا يتجزأ من المغرب يجب عودته ؛ ولذلك حاول المغاربة في القرون التالية لاحتلال المدينتين استعادتهما من قبضة الإسبان، وكان أبرز هذه المحاولات محاولة المولى إسماعيل في القرن السادس عشر الميلادي، حيث حاصر المسلمون في هذه الفترة مدينة سبتة ولم يُقدَّر لهم أن يفتحوها، وكذلك محاولة المولى محمد بن عبد الله عام 1774م، محاصرة مدينة مليلة، ولم يفلح المسلمون في تخليصها من يد الإسبان.
صور من الجهاد المعاصر المسلمين المغاربة لاستعادة المدينتين

بذل سكان المدينتين من المسلمين جهودًا كبيرةً للتمرد على واقع الاحتلال في نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين..

و في بداية القرن العشرين وقعت "حرب الريف الأولى" بقيادة الشريف محمد أمزيان (1909-1912م) و الذي خاض معارك ضارية مع القوات الاسبانية قبالة أسوار مدينة مليلية


المجاهد الشريف أمزيان


و تلتها حرب الريف الثانية ، بزعامة البطل المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي (1921-1926م)
المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي

حدثت المعركة الشهيرة التي انهزم فيها الجيش الإسباني، وهي معركة "أنوال"، و لم يتمكن الاسبان من دحر جيش الخطابي الا بعد حصولهم على دعم الفرنسيين .

فبين عامي 1921م، و1926م، قاد البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي ثورة ضد الإسبان في الشمال المغربي، لكن إسبانيا تصدت لها بالتحالف مع دول أوروبية أخرى بعد أن أشعلت ثورته شرارة الجهاد في المدينتين، وحاول الجنرال فرانكو دغدغة المشاعر القومية لسكان سبتة ومليلة لدعمه في حربه ضد حكومة الجبهة الشعبية، إذ وعدهم بمنحهم الاستقلال إذا ما تولى السلطة في إسبانيا، واستطاع بذلك تجنيد الآلاف منهم في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936م، دون أن يفي بوعده لهم، وهكذا ظل هذان الثغران المسلمان يدفعان ثمن موقعهما الجغرافي على الواجهة بين أوروبا وإفريقيا، وانطلاق الفتح الإسلامي منهما نحو الأندلس، وتبقى قضية سبتة ومليلة شاهدة على الماضي الصليبي في البحر المتوسط.

خاتمة و ليس ختاما
وأخيرًا نقول إن احتلال مدينتي سبتة ومليلة في المغرب من الإسبان هو تماما كاحتلال فلسطين والجولان في سوريا من الصهاينة، والعراق من الأمريكان، والصومال من إثيوبيا، و هذا دليل آخر على الكيل بمكيالين في الأمم المتحدة، حيث يعتبر احتلالهم من الأمور العادية التي لا تتطلب تدخل الأمم المتحدة لأن المتضررين مسلمون، وهم في نظر الغرب أمة لا بأس من احتلال أراضيها؛ لذلك فإن على المسلمين تحمل المسئولية الكاملة لتحرير كل شبر من أراضيهم التي روتها دماؤهم الزكية، وليس من حق أي جيلٍ من الأجيال أن يساوم أو يتنازل عن أي شيء من تراث هذه الأمة ومقدساتها وأراضيها..

و نعود فنطرح قضية المدينتين السليبتين كشاهد على هذا الصراع الطويل المرير بين المغرب و اسبانيا التي مازالت محافظة على روحها الصليبية الاستعمارية ، و التي ذاق المسلمون من خلالها الويلات ، و ما وقع لمسلمي الأندلس من قتل و طرد و تهجير ليس عنا ببعيد..

لكن نقول اسبانيا لا يمكن أن تسلم بسهولة المدينة التي عبر منها طارق بن زياد لما يحمله ذلك من معاني و دلالات تاريخية عميقة ، لكن في المقابل يجب على المسلمين و أهل المغرب خاصة عدم التنازل عن أي شبر من ترابهم..

و يبقى مصير هذه القضية معلقا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فستدور عجلة التاريخ عاجلا أو آجلا لا محالة و ستعود سبتة و مليلية تحت حكم المسلمين ... إن لم يكن ذلك مع هذا الجيل .. فسيكون مع أجيال النصر المنشودة ..

و ما ذلك على الله بعزيز ..




-------------------------------

المراجع :

- سبتة ومليلة.. اغتصاب مدينتين - عماد عجوة ، موقع إخوان أونلاين
- ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، دار التراث، بيروت 1968م.
- ابن جبير، رحلة ابن جبير المسماة "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، تحقيق حسين نصار، القاهرة 1955م، ص41.
- الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مجلد 2، مكتبة الثقافة الدينية، ص 528، 529، 533.
- المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق محمد مخزوم، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1987م، ص190.
- ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج3، دار صادر، بيروت 1957م، ص 183.
- يحيى شامي، موسوعة المدن العربية والإسلامية، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، بيروت 1993م، ص 214.
- الحسن السائح، الحضارة الإسلامية في المغرب، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 1986م.
الموضوع منقول من الملتقي لتعم الفائدة

الصافات

سورة الصافات
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة الصافات (37) : آية 78]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
قول اللّه تعالى :
قال تعالى عن نوح : 37 : 78- 80 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
وقال عن إبراهيم خليله : 37 : 108 ، 109 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ.
وقال في موسي وهارون : 37 : 119 ، 120 وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ.
وقال : 37 : 130 سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين : هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسرين ، منهم : مجتهد وغيره «وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» الثناء الحسن ، ولسان الصدق للأنبياء كلهم. وهذا قول قتادة أيضا.

الصافات

سورة الصافات
بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة الصافات (37) : آية 78]
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
قول اللّه تعالى :
قال تعالى عن نوح : 37 : 78- 80 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
وقال عن إبراهيم خليله : 37 : 108 ، 109 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ.
وقال في موسي وهارون : 37 : 119 ، 120 وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ.
وقال : 37 : 130 سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين : هو السلام عليهم المذكور.
وقد قال جماعة من المفسرين ، منهم : مجتهد وغيره «وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» الثناء الحسن ، ولسان الصدق للأنبياء كلهم. وهذا قول قتادة أيضا.

الاسراء2

وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً
وقوله : 41 : 5 وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ
على أصح القولين. والمعنى : جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره ، والأيمان به ، وبيّنه قوله : 17 : 45 وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله : 41 : 5 وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فأخبر سبحانه أن ذلك جعله.
فالحب يمنع من رؤية الحق ، والأكنة تمنع من فهمه ، والوقر يمنع من سماعه.
وقال الكلبي : الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول اللّه بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه.
ووصفه بكونه مستورا فقيل : بمعنى ساتر. وقيل : على النسب ، أي في ستر والصحيح : أنه على بابه ، أي مستورا عن الأبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت. والنسب في مفعول لم يشتق من فعله ، كمكان محول أي ذي حول ، ورجل مرطوب ، أي ذي رطوبة. فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل. كمضروب ومجروح ومستور.

الاسراء" مدخل صدق,مخرج صدق, لسان صدق,قدم صدق,مقعد صدق"

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82)
وأخبر عن خليله إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم : أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الناس. فقال : 26 : 84 وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وبشر عباده : أن لهم عنده قدم صدق. ومقعد صدق. فقال تعالى : 10 : 2 وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقال : 54 : 54 ، 55 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
وهذه خمسة أشياء : مدخل الصدق ، ومخرج الصدق ، ولسان الصدق ، وقدم الصدق ، ومقعد الصدق.
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل باللّه ، الموصل إلى اللّه. وهو ما كان به وله ، من الأقوال والأعمال ، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق : أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا


باللّه ، وللّه ، وفي مرضاته ، متصلا بالظفر بالبغية ، وحصول المطلوب ، ضد مخرج الكذب ومدخله ، الذي لا غاية له يوصل إليها ، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها. كمخرج أعدائه يوم بدر ، ومخرج الصدق : كمخرجه صلّى اللّه عليه وسلّم هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق باللّه ، وللّه ، وابتغاء مرضاة اللّه. فاتصل به التأييد والظفر والنصر ، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة ، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب. فإنه لم يكن للّه ، ولا باللّه ، بل كان محادة للّه ولرسوله. فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار.
وكذلك مدخل من دخل من اليهود والمحاربين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب أصابهم معه ما أصابهم.
فكل مدخل ومخرج كان باللّه وللّه وابتغاه مرضاة اللّه : فصاحبه ضامن على اللّه. فهو مدخل صدق ومخرج صدق.
وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء وقال :
اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك. يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق. ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه : بخروجه صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة ، ودخوله المدينة. ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل. فإن هذا المدخل والمخرج من أجلّ مداخله ومخارجه صلّى اللّه عليه وسلّم. وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق ، إذ هي للّه وباللّه وبأمره ، ولابتغاء مرضاته.
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو أي مدخل آخر إلا بصدق أو بكذب. فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب. واللّه المستعان.
وأما لسان الصدق : فهو الثناء الحسن عليه صلّى اللّه عليه وسلّم من سائر الأمم بالصدق ، ليس ثناء بالكذب. كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل
)


عليهم صلوات اللّه وسلامه 19 : 50 وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا.
والمراد باللسان هاهنا : الثناء الحسن. فلما كان الصدق باللسان ، وهو محله ، أطلق اللّه سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق ، جزاء؟ وعبر به عنه.
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان : هذا ، واللغة ، لقوله تعالى : 14 :
5 وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ وقوله : 30 : 22 وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ وقوله : 16 : 103 لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.
ويراد به الجارحة نفسها كما في قوله : 75 : 16 لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
.
وأما قدم الصدق : ففسر بالجنة ، وفسر بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم. وفسر بالأعمال الصالحة.
وحقيقة القدم : ما قدموه ، ويقدمون عليه يوم القيامة. وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
فمن فسره بها أراد ما يقدمون عليه. ومن فسره بالأعمال وبالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فإنهم قدموها وقدموا الايمان به بين أيديهم. فالثلاثة قدم صدق.
وأما مقعد الصدق : فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم لثبوته واستقراره ، وأنه حق مستلزم لدوامه ونفعه وكمال عائدته. فإنه متصل بالحق سبحانه ، كائن به وله. فهو صدق غير كذب ، وحق غير باطل. ودائم غير زائل ، ونافع غير ضار. وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.

مدونة الارض لنا " كل ما يخص المسلم صاحب الهم والدعوة"

قناة الاقصي وتردد جديد